فصل: الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب، وهذا ليس مرادًا هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظورًا، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة.
اللطيفة الثانية:
المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهرًا بأداء المناسك على وجهها، وباطنًا بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر:
إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ ** فما حججتَ ولكنْ حجّت العير

لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ** ما كلّ من حج بيت الله مبرور

اللطيفة الثالثة:
في قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فيه مجاز بالحذف تقديره: فحلق ففدية من صيام، فحذف فحلق اختصارًا، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] حذف كلمة فأفطر اختصارًا لدلالة اللفظ عليه.
اللطيفة الرابعة:
التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جاء على طريقهم في التوكيد، مثل قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال: {عشرة كاملة} فتنبه له.
اللطيفة الخامسة:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس، أفاده ابن قتيبة.
اللطيفة السادسة:
من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} فالمراد بالأول زمان الحج، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو الحرم ولو قال: فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤدّ هذه المعاني كلها، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي.
قال أبو السعود: وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل العمرة واجبة كالحج؟

اختلف الفقهاء في حكم العمرة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.
وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة، وهو مروي عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله.
أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي:
أولًا- قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملًا تامًا فدل على الوجوب.
ثانيًا- ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه «مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة».
ثالثًا- ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
أدلة المالكية والحنفية:
واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي:
أولًا: عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وقوله جل ثناؤه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [الحج: 27] الآية.
ثانيًا: قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة، وأنها تختلف في الحكم عن الحج.
ثالثًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحج جهادٌ والعمرة تطوع».
رابعًا: ما روي عن جابر بن عبد الله «أنّ رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم».
خامسًا: وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا: إنها محمولة على ما كان بعد الشروع، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه، وهذا يجب بالاتفاق.
قال العلامة الشوكاني: وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعًا بين الأدلة، ولاسيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها.
أقول: لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم.

.الحكم الثاني: هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟

اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام.
فذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة.
وقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو.
وذهب أبو حنيفة: إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقة، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة.
وحجته: ظاهر الآية: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن الإحصار- كما يقول أهل اللغة- يكون بالمرض، وأما الحصر المنع والحبس فيكون العدو، فلما قال تعالى: {أُحْصِرْتُمْ} ولم يقل حصرتم دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو.
واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلًا لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل.
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال: فإذا برأتم ولقول ابن عباس: لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل.
الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعًا متفقون على أن الإحصار يكون بالمرض، والحصر يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زادًا؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله حيث قال ما نصه: وأولى التأويلين بالصواب في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حصرتم.
أقول ويؤيده ما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني» فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه.

.الحكم الثالث: ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟

الآية الكريمة صريحة في أن على المحصر أن يذبح الهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى: {فَمَا استيسر} وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال: بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور.
وأما المكان: الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
فقال الجمهور الشافعي ومالك وأحمد: هو موضع الحصر، سواءً كان حلًا أو حرمًا.
وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
وقال ابن عباس: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره.
قال الإمام الفخر: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي: المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان.
الترجيح: والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل، وأما قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فذلك- كما يقول الشوكاني- في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، والله تعالى أعلم.

.الحكم الرابع: ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟

دل قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} على وجوب دم الهدي على المتمتع، فإذا لم يجد الدم- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} الآية.
فقال أبو حنيفة: المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج، والأفضل أن يصوم يوم التروية، ويوم عرفة، ويومًا قبلهما يعني السابع، والثامن، والتاسع من ذي الحجة.
وقال الشافعي: لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى: {فِي الحج} وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة.
ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والشافعية هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} فالحنفية قالوا في أشهر الحج، والشافعية قالوا: في إحرام الحج، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين.
وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها.
فقال الشافعية: وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
وقال أحمد بن حنبل: يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه.
وقال أبو حنيفة: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله.
قال الشوكاني: والأول أرجح فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله». وثبت أيضًا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ «وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم».